Feed Item
Promoted
Added a post 

وأعني بالباحث هنا تحديدا كل من اشتغل أو يشتغل في مجال أبحاث العلوم الطبية الحيوية (Biomedical Research). وتنقسم مجالات بحوث علوم الطب الحيوي إلى ثلاثة أقسام هي: البحوث الأساسية (Basic Research)، والبحوث المُترْجمة (Translational Research)، والبحوث السريرية (Clinical Research). وكل مجال من هذه المجالات البحثية يهتم بقضايا معينة لتكوين سلسلة متتابعة من الأفكار والخواطر التي تقدح في عقول العلماء والباحثين من حين لآخر، كلّما أذن الله – جلّ في علاه - لتبدأ بعدها عملية إجراء البحوث الأساسية متبوعة بإجراءها في مرحلة الأبحاث المُترْجمة، ليتم بعدها دراستها وتطبيقها في مرحلة البحوث السريرية. وعلى الرغم من هذا، فليس بالضرورة كل فكرة مُبتكرة لابد لها من أن تمر بهذه المراحل الثلاثة المذكورة أعلاه. فالغرض من هذا التقسيم المبسط هو تسهيل عملية الفهم لاستيعاب المراحل المختلفة في مجال البحث والابتكار. لذا، هناك من يرى البحث والتطوير في مجال علوم الطب الحيوي ينقسم إلى بحوث أساسية، وبحوث تطبيقة تشمل (الابحاث المترجمة والابحاث السريرية). فالأبحاث الأساسية غالبا ما تدرس الفكرة بتمعن والعمل على التحقق من صحتها (عالم الأفكار)، بينما الأبحاث التطبيقة تعمل على ترجمة الأفكار المحقّقة المؤكّدة إلى قوالب ونماذج مبتكرة ملموسة يستفيد منها الناس (العالم المحسوس).

والجدير بالملاحظة هنا، أن آليات البحث والأدوات التي يستخدمها الباحثون في مجال البحوث الأساسية هي المختبر (in vitro) أو استخدام كائن حي كالحيوانات مثلا وتعرف بــــ (in vivo)، بينما البحوث التطبيقية بشقيها (المُترْجم أو السريري) فمادتها هو الإنسان نفسه، على اعتبار أنه الهدف النهائي، والمستفيد الأول من منتجات البحث والتطوير والابتكار في مجال علوم الطبي الحيوي. وعادة ما تصاحب البحوث التطبيقية اجراءات تنظيمية أخلاقية صارمة لمنع التساهل أو التلاعب في اجراء هكذا نوعية من البحث العلمي حتى لا يتضرر الناس. على كل، ودون الخوض في التفاصيل، أقول بأنه ليس كل باحث طبيب، وليس كل طبيب باحث، والقليل من يجمع بينهما. فمنشأ الباحث وتكوينه العلمي في مجال علوم الطب الحيوي متنوع ومختلف تماما مقارنة بمنشأ وتكوين الطبيب الممارس المتخصص في الطب. فالباحثون في مجال العلوم الطبية الحيوية يأتون لهذا الحقل العلمي من خلال مرورهم بمسار وتكوين علمي معرفي من تخصصات علمية وانسانية متنوعة، كعلوم الكيمياء، والاحياء، والرياضيات، والفيزياء، والكمبيوتر، والمعلوماتية، الجغرافيا، والحيوان، والفلك، والإجتماع، والإدراك والسلوك، والبيئة وغيرها، وبعضهم قد يأتي من المدرسة الطبية نفسها، ولا يجانبنا الصواب بقولنا ان الباحثين منشأهم ومجيئهم من جميع دروب العلم والمعرفة الكونية المتنوعة الواسعة. فمن باطن هذه المسارات المعرفية المتنوعة يتكوّن الباحث في مجال الطب الحيوي ويتطور مع الدراسة والبحث والإجتهاد ليتشكّل عنده تصور أو فهم أو فكرة أو خاطرة مُبْتكرة تفيد في علاج الأمراض التي يتعرض لها الناس أو تفيد في تعزيز صحتهم وعافيتهم. وفي المقابل، فمنشأ الطبيب الممارس لمهنة الطب هو الكليات والمعاهد الطبية المنتشرة عالميا (كليات الطب بأقسامها المختلفة)، ليتم اعداده وتكوينه لممارسة مهنة الطب لعلاج الأمراض التي تصيب الناس من خلال مؤسسات وصوامع أنظمة الرعاية الصحية المركزية الخاملة. فالمدى أو الفضاء الذي يستمد منه الباحث أفكاره ورؤاه لترجمتها إلى تطبيقات عملية يستفيد منها الناس لا تحُدّه حدود (الفضاء الكوني)، بينما الفضاء الذي يمارس فيه الطبيب المختص عمله هو المؤسسات المركزية لأنظمة الرعاية الصحية. فبينما الباحث (عالم الأفكار) لا تحده حدود، فعالم الممارسة، في المقابل، محكوم بقوانين، وضوابط، وتعليمات، وسياسات، وبروتوكولات صارمة لا يمكن لأحد (الطبيب) هنا تجاوزها أو اهمال العمل بها، وإلاّ تعرّض للمساءلة القانونية.

ولا يُفْهم من كلامي هنا أن الباحث لا يخضع هو أيضا لقوانين وبروتوكولات ضابطة له في مجال البحث والتطوير. لا بالعكس، فما عنيتُه هنا بالتحديد أن الباحث – إذا جاز التعبير – يتصرف تصرف "الحياة المدنية" التي يمارسها الناس دون قيود صارمة محددة، بينما حياة الطبيب وتصرفاته تكون داخل أسوار منظومات الرعاية الصحية التي تشبه المعسكرات والثكنات العسكرية "الحياة العسكرية". فمثلا، لابد للطبيب من مراعاة التراتبية في اتخاذ القرار دون هامش واسع من التصرف، ودون اتخاذ اجراءات تشخيصية أو قرارات علاجية ليس لها أدلة علمية مسبقة (حدائقها الخلفية مراكز البحث والتطوير) تم اعتمادها من هيئات عالمية معتبرة (مثال منظمة الدواء والغذاء) لها سلطة القرار في هكذا نوع من التخصصات الطبية السريرية. أخلص وأقول، أن فضاء الباحث هو الكون باجمعه، بينما فضاء عمل الطبيب هو صوامع انظمة الرعاية الصحية، وأن جوهر البحث العلمي هو التفكر في الفضاء الكوني بينما جوهر الممارسة الطبية هو التنفيذ الخدمي – بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى – داخل أسوار أنظمة الرعاية الصحية المختلفة (الثكنات الصحية). فحياة الباحث حياة "مدنية" مفتوحة بينما حياة الطبيب حياة "عسكرية" مغلقة. وبما أن أقدار الله – سبحانه وتعالى - شاءت لي ان اخوض البحث العلمي في مجال الطب الحيوي ولازلت أمارسه، وقبلها مارست مهنة الطب (طبيب) داخل أقسامه المتنوعة، أقول ودون تجني أن البحث العلمي يرسخ لمفهوم المشاركة والدمقرطة واتساع الأفق وتقبل الآراء المتناقضة والمعقدة وحتى المجنونة منها، بينما ممارسة المهن الطبية تؤسّس للتعصّب للرأي والتفرد باتخاذ القرار، و غالبا ما تنحو بنا نحو الاستبداد و الدكتاتورية. فإذا ما امعنا النظر بدقة مثلا في العلاقة التي تحكم الطبيب بالمريض داخل الثكنة الصحية نجدها علاقة غير صحية - حتى وإن بدت لنا ظاهرا غير ذلك – فهي ترسخ لثنائية (السّيد والعبد) أو (الشيخ والمريد). فالطبيب هو صاحب الكلمة العليا والكلمة الفصل (السّيد) بينما المريض هو المنفذ لهذه الأوامر دون مناقشة أو اعتراض (العبد).

وفي الحقيقة، وحتى لا يفهم من كلامي اني متحامل على الطبيب هكذا في المطلق دون الأخذ بالسياقات والمهام التي تحيط به، فالعلاقة أو الثنائية غير الصحية (Non-healthy relationship) بين الأطباء ومرضاهم تتأثر سلبا أو ايجابا بتنوع التخصص الطبي الممارس داخل صوامع وأسوار انظمة الرعاية الصحية (دون الخوض في التفاصيل). 

أختم وأقول من ان هذه الخواطر التي تراودني من حين لآخر، ومن الخبرة البسيطة التي تراكمت لدي منذ عقود ثلاثة خلت لازلت مع غيري ابحث واعْمل النظر هنا وهناك في الفضاء الكوني – مستعينا بالله سبحانه وتعالى - مستخدما المنهج التفكيري النقدي (Critical Thinking) لإيجاد رؤى ومسارات ومناهج جديدة في البحث والتطوير والابتكار في مجال علوم الطب الحيوي لعلها تنفع الناس. ربما، ولم لا. وما ذلك على الله بعزيز.

  • 2
Comments
      • image_transcoder.php?o=sys_images_editor&h=91&dpx=2&t=1670682746 

        • 1
      Login or Join to comment.

      ScrubdIn

      Close